أصحاب المعالي والسعادة،
حضرة الدكتور أسامة أرنؤوط، ممثل معالي الست بهية الحريري،
حضرة رئيس اتحاد بلديات منطقة جزين الدكتور بسام رومانوس،
حضرة الأب الدكتور مارك سعادة، رئيس دير ومدرسة سيدة مشموشة،
حضرةَ الكهنةِ والآباءِ الرهبان الأجلاء،
حضرة السيد الياس أبو فاضل، المدير العام لمستشفى سيدة المعونات الجامعي جبيل،
حضرة رؤساءِ البلديّات، والهيئاتِ الاختياريّةِ والقضائيّةِ والعسكريّةِ والأمنيّةِ والإعلاميّة،
أيها الحفلُ الكريم،
في مستهلِّ كلمتي، أسمحُ لنفسي أن أرفعَ أسمى آياتِ الشكرِ إلى قدسِ الأبِ العام هادي محفوظ، الرئيسِ العام للرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة، الذي شرّفني بأن أمثّلَه في هذا الاحتفالِ المغمورِ بالرجاءِ والفرحِ والتطلّعاتِ الواعدة، وأن أترأسَ اللجنةَ التي شكّلها بمبادرة محمودة رئيسُ اتحادِ بلديّات منطقة جزين الدكتور بسام رومانس، لمواكبةِ عمليةِ إنهاضِ مشروعِ كفرفالوس والسيرِ به إلى تمامه. وأودُّ أيضًا أن أعبّرَ عن عميقِ فرحي وأنا أرى هذا الصرح – الذي كان بحقٍّ أكبرَ مدينةٍ جامعيّةٍ واستشفائيّةٍ في الشرق – يستعيدُ بخفر ورويدا رويدا نَبْضَ الحياةِ بعد عقودٍ من الركّامِ والجراحِ والحرمان. إن ما بناه الرئيسُ الشهيدُ رفيق الحريري، برؤيويةٍ ثاقبةٍ وحلمٍ يسبقُ زمنَه، في أواخرِ السبعينيّات، لا تُطفئُه الحروبُ ولا تمحوه يدُ الخراب.
إنَّ ذاكرةَ الوطن تسترجعُ، بحرقة قلب، كيف كانت كفرفالوس في بداياتِ الثمانينيّاتِ تضجُّ بالحياة: حركةٌ استشفائيّةٌ تُضاهي كبرياتِ المستشفيات، في لبنانَ والشرق، وحَراكٌ جامعيٌّ يستقطبُ الأدمغةَ اللامعةَ والباحثينَ والعلماء. وباستثمارٍ بلغ ما بين 350 و450 مليونَ دولارٍ أمريكيّ آنذاك، أي ما يعادلُ اليومَ أكثرَ من مليارٍ ومئتي مليونَ دولارٍ أمريكيّ، تحوّلت الأرضُ البورُ والسليخ والمقفرةُ إلى واحاتِ علمٍ وشفاءٍ ونهوض.
هذا الحلمُ الذي شُيّدَ بالحكمة والجرأة، لن نسمحَ أن يتلاشى أو ينكفئ.
وبعد أربعةٍ وثلاثينَ عامًا على تدميرِ مستشفى وجامعة كفرفالوس، تضافرت الإراداتُ الخيّرة، تحت القيادةِ الحكيمةِ لصاحبِ الغبطة والنيافة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، الكلي الطوبى، لتنطلق مسيرةُ إعادةِ الحياة إلى هذا الموقع الاستراتيجي. ولن أنسى يومَ دعاني صاحب الغبطة، وأنا رئيسُ جامعة الروح القدس الكسليك، إلى اجتماعٍ طارئ في الصرح البطريركي الذي كان يضم صاحب السيادة المطران مارون العمار ومعالي الوزير ورجل الدولة الاستثنائي شارل الحاج الذي كان حينئذ رئيسَ المؤسّسة المارونيّة للانتشار، والأستاذ الحبيب فادي رومانوس والنائب العام المونسنيور مارون كيوان، وغيرَهم. بادرني صاحبُ الغبطة بالقول: “أنت رئيس الجامعة، وأنت أيضا من الميدان قضاء جزين. أرى من المناسب والمنطقي أن تكون جامعة ومستشفى كفرفالوس للرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة. فما هو موقفُك ؟ فهل أنت مستعد؟ وهل الرهبانية راغبةٌ وقادرةٌ على حملِ هذا المشروع؟”
لم أكن أصدّقُ ما سمعتُه من صاحبِ الغبطة الذي تربطُني بنيافتِه صداقةٌ عميقةٌ ومديدةٌ ومتجذّرة.كانت تلك اللحظةُ مفصليّة. فانخرطت الرهبانيّةُ يومَها في المشروع باندفاعٍ كبير، متجاهلةً أثقالَه الماديّة، ومركّزةً فقط على قيمتِه الوطنيّة والإنسانيّة لمنطقة جزين وللبنانَ بأسره.
إنَّ الرهبانيّة اللبنانيّةَ المارونيّةَ، التي تحملُ اسمَ لبنانَ في صميمِ هويتِها، تمتدُّ بأديارها ومؤسساتها من رميش في الجنوب النازف إلى مِنجز على أطراف الشمال، مرورًا بالبقاع وزحلة وبعلبك، وعلى طول الساحل. فالرهبانيّةُ ترسمُ بأديارها خريطةَ لبنان. وهي تحملُ همَّ هذا الوطنِ العظيمِ والهشِّ في آن، وتدافعُ عن رسالتِه الفريدة باستبسال.
وكما قال الفيلسوفُ بول ريكور: “الأممُ تُبنى على الذّاكرة والأملِ معًا.” وكفرفالوس هي اليوم ذاكرةٌ جريحة، تُستعادُ لتصبحَ أملاً جديدًا.
ولبنانُ، كما أراده الآباءُ المؤسسون وكما يشهدُ كبارُ مفكري العالم، هو مختبرٌ فريدٌ لرسالة العيش معًا. فقال عنه المفكرُ العملاق شارل مالك: “لبنانُ هو التجربةُ الأخطرُ والأجمل: أن نعيشَ ونفكّرَ ونبني معًا ونحن مختلفون.” وقد أثبتتِ التجاربُ أن الجامعةَ هي المكانُ الطبيعيُّ لولادةِ الفكرِ الحرّ، وأن المستشفى هو المكانُ الطبيعيُّ لولادة الكرامة الإنسانيّة. فالجامعةُ، كما وصفها جون هنري نيومان، هي: “بيتُ العقلِ الحيّ”، والمستشفى، بحسب ألبير كامو، هو: “موضعُ الامتحانِ الحقيقيّ لإنسانيتِنا.”
ومشروع كفرفالوس يجمع هذين البعدين: العقلَ والرحمة، المعرفةَ والشفاء، الإنسانَ بكل تجلّياتِه.
وجزين، كما لبنان، رسالةٌ تجمعُ ولا تفرّق، تقرّبُ ولا تُباعد، وتفتحُ دروبَ اللقاءِ بين الشوف وصيدا والجنوب. ومشروعُ كفرفالوس ليس مجرّدَ ورشةٍ عمرانية، بل جسرٌ اجتماعيٌّ وإنسانيٌّ وتربويٌّ يرسّخُ الألفةَ والتكاملَ في لبنانَ الآتي من رحمِ أوجاعِه.
انطلاقا مما سبق، أتقدّم بالشكر، باسم قدس الأب العام هادي محفوظ السامي الاحترام، إلى جميعِ من بادروا إلى إطلاقِ ورشةِ هذا المشروع، وخاصةً الصديق الحبيب الدكتور بسام رومانوس، رئيسِ اتحاد بلديات منطقة جزين، الذي يعملُ باندفاعٍ وتجرّدٍ ومحبّةٍ خالصة. كما أشكرُ سعادةَ النائب الحبيب سعيد الأسمر، الذي يتحرّكُ بإيمانٍ وعزيمةٍ ورجاءٍ لإطلاقِ الدّراساتِ الأوّليّةِ بالتعاونِ مع فريقِ عملٍ شكّله رئيسُ جامعةِ الروحِ القدس الأب البروفسور جوزيف مكرزل. وهذا الأمرُ ليس بغريبٍ على سعادته، فقد سبق وطالبني كنائبٍ عام بأن نعيدَ فتحَ دير المخلص في بحنين وينتقلَ الحبيسُ يوحنا الخوند، إبن صيدون الغالية، إلى هذا الدير، حتى نرتاحَ لمصيرنا بوجودِ حربةٍ روحيّةٍ تردُّ عنا الصواعقَ والمصائبَ في أحلكِ الظروفِ الوطنيّة. وكذلك، أنتهزُها فرصةً سانحةً لكي أوجّهَ شكرًا خالصًا إلى سعادةِ النائبة العزيزة الدكتورة غادة أيوب، المتجلّيةِ بالعلمِ والحذاقةِ الفكريّةِ ونسجِ العلاقاتِ الاجتماعيّةِ الواسعة، على دعمِها اللاّمحدود لهذا المشروع الحيويّ والرائدِ في المنطقة. وأعبّرُ أيضا عن امتناني العميقِ لجميعِ سعادة الوزراء والنواب السابقين في منطقتنا الذين يساهمون بشتى الوسائل في دعم هذا المشروع وتزخيمه، لما فيه خيرُ منطقتنا وازدهارُها. وكلمةُ عرفانِ جميلٍ أقولُها لكلِّ شخصٍ ساهم من قريب أو من بعيد في تحضيرِ هذا الاحتفالِ الأوّلِ وتنظيمِه، بالرغمِ من العواملِ الطقسيّة غيرِ المسهّلة.
أيها الحفلُ الكريم،
كما ترون بشكل جلي، جميعُ فعاليّات منطقة جزين، من وزراءَ ونواب، حاليينَ وسابقين، ورئيسِ اتّحادِ البلديّات ورؤساءِ البلديّات، والمخاتير، والمجتمع المدني في كلِّ مكوناتِه، جميعُهم في خليّةِ نحل دعمًا لهذا المشروع. لا أغالي البتّة إن قلتُ إن مستقبلَ منطقةِ جزين يتعلّقُ، إلى حدٍّ بعيد، بإعادة ترميم وتشييد مدينة كفرفالوس الاستشفائيّة والجامعيّة. وسيصارُ إلى إنشاءِ لجنةٍ مختصّة للتواصل مع المتموّلين في لبنانَ والانتشار، وَفقَ أعلى معاييرِ الشفافيّة التي تُمكّنُ كلَّ مساهمٍ من رؤيةِ أثرِ عطائِه. كما نرحّبُ بالمتموّلين الذين يرغبونَ في تنفيذِ أعمالِ الترميمِ مباشرةً ووضع أسمائهم على مبانٍ يشيّدونها، فهذا دليلُ التزامٍ وانتماءٍ بليغ.
وفي الختام، أستعيدُ كلماتِ قداسةِ الحبر الأعظم البابا لاون الرابعَ عشر في ختامِ القدّاسِ الإلهيّ في بيروت: “يا لبنانُ.. قمْ وانهضْ وكن بيتًا للعدلِ والأُخوّة، ونبؤةَ سلامٍ لكلِّ المشرق.”
نعم، سننهضُ ونخرجُ من تحت ركامِ حروبِ الآخرين، الظالمةِ والعبثيّة، وننطلقُ في مواكبِ الحياة المتجدّدةِ، وندشّنُ أجملَ المؤسساتِ الجامعيّة والاستشفائيّة، ونحتفلُ بإعادةِ الحياةِ الكريمةِ إلى اللبنانيّ الأسطوريِّ في عمقِ إيمانِه وصلابةِ رجائِه وتجذّرِ عُشقِه للحياة. وشكرا.


