تغيّر العالم وبقي لبنان رهينة ل”حزب الله”…(الدكتور فيليب سالم)

لقد تغيّر العالم، وتغيّر الشرق. استباحت إسرائيل سماء هذا الشرق وملأته بالطائرات الحربية والمسّيرات. دمّرت غزة وفلسطين وهزمت حماس وقتلت قادتها. كما شنّت حروبا على لبنان وحزب الله فدمرت الجنوب، وأذلت أهلنا على مساحة الوطن. وهاجمت إيران وتمكنت من تعطيل برنامجها النووي. تغير الشرق وأصبحت إسرائيل هي القوة العسكرية العظمى فيه. لقد تبوأت هذا الانتصار على ركام من أجساد الأطفال الموتى، وعلى ركام من الجرائم والفظائع التي لم يشهدها تاريخ الحروب من قبل. لقد تغير الشرق وانهار محور الممانعة، وانهارت معه اسطورتان : أسطورة “فائق القوة” عند حزب الله والحرس الثوري الإيراني، واسطورة تحرير فلسطين بالسلاح. لقد انتهى عهد طويل من الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني المسلح. وانتهى معه عصر طويل من الشعارات الفارغة والبطولات الوهمية. لقد اقتنع الجميع أن الطريق إلى القدس لا تمر في مدن العالم العربي ولا تمر بالسلاح. وها قد جاء البارحة الرئيس الأمريكي، وجاء معه قادة العالم لإرساء السلام في فلسطين. لم يكتفي ترامب بالكلام عن سلام بين إسرائيل وحماس بل تجرأ على الكلام عن سلام للشرق كله.

وماذا عن لبنان؟ خمسون سنة من الحروب ولبنان ينتظر السلام . وها قد تراءى لنا أن كل الحواجز التي تمنعنا من الوصول إلى السلام قد تلاشت. ولوهلة ظننا أن السلام لا محالة قادم الى عندنا . عهد جديد. وأحلام كبيرة : “حصرية السلاح بيد الدولة وحدها”، و”بسط سلطة الدولة على جميع أراضيها”. وجاء العالم ليقدم لنا فرصة جديدة . قرارا أممياً ليأخذنا إلى السلام. فاعتقدنا أن الله معنا وأن الحلم أصبح حقيقة. الا ان الحقيقة اصطدمت بموقف حزب الله المتشدد والذي يهدد الدولة بالفتنة إن هي حاولت نزع السلاح . وها هو يقوم بإستقواء على الدولة وبإذلالها كل يوم. وقد يسأل اللبناني أي فائض للقوة يتمتع به حزب الله ليتجرأ على هذا التحدي؟ الجواب هو أن حزب الله لا يمتلك فائضاً للقوة ؛ إن قوته تكمن في عدم صلابة الموقف اللبناني والتصدع الكبير في هذا الموقف. لقد أصبح واضحا أن مسار الحوار الذي اختاره الحكم للوصول إلى حصرية السلاح لن يقودنا إلى مكان. لقد قادنا إلى تآكل هيبة الدولة وإضعافها.

لقد اقتنعت الادارة الأمريكية أن هناك مطبات كثيرة لتطبيق القرار 1701 ، فجاءت تطلب منا التفاوض مع إسرائيل. لقد تفاوضنا مع إسرائيل من قبل. مباشرة في اتفاق 17 أيار، وغير مباشرة في ترسيم الحدود البحرية. إن التفاوض تحت سقف “الميكانزم” ليس كافيا. نريد تفاوضا مباشرا ياخذنا إلى اتفاق لوقف الحرب نهائيا بيننا وبين إسرائيل . نريد اتفاقا امنيا يعود بنا إلى ما يشبه اتفاق الهدنة في سنة 1949. نريد إتفاقا للسلام، لا إتفاقا للتطبيع. والسؤال، لماذا إذاً يحاصر حزب الله مبدأ التفاوض؟ إن حزب الله يريد ان يقول لنا أن قرار السلم والحرب لا يزال في يده .
أن القيادة الحكيمة تتطلب الجرأة والإقدام . وما يتطلب أكثر جرأة وإقداما هو طلب لبنان لحماية دولية . هنا يكمن سر السلام. فإن توصلنا إلى اتفاق أمني مع إسرائيل أم لا، نحن بحاجة إلى حماية دولية . نريد سلاما دائما لا سلاما مؤقتا . وكيف يمكن أن يكون السلام دائما بين دولة ضعيفة مثل لبنان ودولة عدائية توسعية لا تحترم الشرعية الدولية، مثل إسرائيل ؟ الحماية الدولية هي التي تؤمن ديمومة السلام. وهل كان السناتور غراهم جاداً عندما عرض على لبنان حماية دولية بإشراف الولايات المتحدة “لحماية التنوع الديني في لبنان”؟ ولو كان السناتور يعرف لبنان جيدا لقال: لحماية ما هو أهم من التنوع الديني، التعددية الحضارية والحرية في لبنان.
جبهة أخرى يحارب عليها حزب الله ضد مشروع بناء الدولة وهي الانتخابات النيابية وحقوق المنتشرين اللبنانيين. من زمان والقوى التي تقف حاجزا ضد قيام الدولة في لبنان، من حزب الله وغيرهم من السياسيين اللبنانيين، كانت تعارض مشاركة المنتشرين في صنع مستقبل لبنان. كانت هذه القوى وما تزال تخاف على تغيير المعادلة . معادلة الحكم مع الفساد . وثمة من يعرض اليوم على المنتشرين “مازحا”، الاقتراع من لبنان. وهنا لا بد أن نذكّر الدولة بأن المنتشرين هم من دعموا صمود اللبنانيين المقيمين في هذا الانهيار السياسي والاقتصادي؛ وهم من أعطوا صورة العظمة للبنان . إن العالم يعرف لبنان العظيم من أبنائه المنتشرين. أن عظمة لبنان تكمن في تاريخه وفي انتشاره . لم تكن هذه العظمة يوما في دولته.

في الخمسين سنة الماضية، لم تكن الحروب في لبنان كلها بسبب حزب الله فقط. لقد كان هناك سبب آخر وأهم. وهو ضعف الحكم في لبنان. وعدم القدرة على بلورة القرار السياسي السيادي الواحد. ها قد عدنا اليوم الى المربع الأول. منذ خطاب القسم، ونحن في حلم؛ وكم نخاف على الحلم ان تقتلوه.