ثلاثةٌ وثلاثون عاما مضت على عودتي من فرنسا ولا زال الناس يسألونني : لماذا عدت؟ ألم يكن أفضل لك ولعائلتك البقاء في بلد الحضارات والثقافات؟ وفي إحدى المرّات سئلت في مقابلة تلفزيونيّة عن سبب عودتي فأجبت راوياً القصّة التالية.
حكي في إحدى النوادر الأدبيّة أنّ ملكا كان يعشق الصراصير ويهتمّ باقتنائها، وأوصى بأن يأتوه بأفضلها وأكبرها فحصل على مبتغاه. خصّص الملك للصرصار جناحاً في القصر مع خدمٍ وحشم. ولكن لم يمضِ يومان، حتّى ذبل صديقه وانكفأ في إحدى الزوايا منهوك القوى، فجنّ جنون الملك وطلب من أطبّائه أن يعالجوا صديقه أيّاً يكن الثمن، ولكنّ أيّ دواء لم ينفع معه.
ما كان من الملك إلّا أن علّق لافتاتٍ على الطرق الفرعيّة والرئيسيّة تدعو من لديه العلاج الشافي أن يتقدّم به، وخصّص مبلغاً كبيراً من المال من أجل ذلك. وإذ صودف مرور أحد الفلّاحين الذي قرأ الإعلان، فطلب مقابلة الملك وكان له ما أراد. فبادره الفلّاح قائلا : “أنا أتكفّل بشفائه إن أعطيتني الأمان، فأنا أخشى يا جلالة الملك على نفسي إن أفصحت أمامك عن الدواء.” أجابه الملك: “ما عليك،إفعل ما تراه مناسباً، المهمّ أن يشفى الصرصار”. كرّر عندها الفلّاح: “هل فعلاً عليّ الأمان؟ ” أكّد الملك: “عليك الأمان، ماذا تريد؟” فطلب الفلّاح: سلّة مليئة بالنفايات. حينها، غضب الملك: “ماذا؟! أنت تهين الصرصار الذي أحبّ”، فردّ الفلّاح : “قلت لك يا مولاي إنّ المسألة قد تغضبك، هل تريد شفاءه أم لا؟” جزم الملك بِنَعَم ، فاستطرد الفلّاح: “إذاً نادِ على الخدم أن ياتوا بسلّة النفايات.” أتى الخدم بما طلبه الفلّاح الّذي أمسك الصرصار ورماه في السلّة ،وما هي إلّا بضع ثوانٍ حتّى نفش الصرصار جناحيه واشرأبّ جسمه وعاد إلى وضعه الطبيعي. نعم، شفي الصرصار لأنّه مثل كلّ المخلوقات ابن بيئته وعاداته وسقطاته، قبل أن يكون ابن أحلامه وطموحاته وانجذابه الى الجماليات والعالم الأفضل. كذلك نحن المخلوقات البشريّة ما أسهل عودتنا إلى هزائمنا وفشلنا وأحلامنا التي يتم إجهاضها يوما بعد يوم.
نحن العائدين إلى لبنان والشوق يغلبنا إلى هويتنا وماضينا وارتباطنا لم تشفَنا الإقامة في بلاد الحضارات. ومهما كانت بيئتنا وأوهامنا واحلامنا المندثرة نعود بالأمل. لكنّنا نعود إلى بلد يعزّ علينا أن يكون مطموراً بالنفايات والموبقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ومع ذلك نتآلف مع أمراضنا ولا نستطيع العيش من دونها. والحقّ يقال إنّ الشعب اللبناني اليوم تخطّى الافتقاد الى ما هو جميل بل إنّه لم يعد يشعر حتّى بهذا الجمال .لقد فقد الإحساس والذوق السليم والفيلم الجميل والموسيقى الحلوة والعائلة المجتمعة، ولا يوقظه من سباته العميق إلّا ما يمكن أن يشاهده بواسطة الانترنت والمحركّات الرقميّة والمنصّات العابقة بخطابات الكراهيّة والغضب والشتم وتبادل الاتهامات .
ترانا نغرق في القمامة على أنواعها وكأنّ الكون يعبر إلى عصرٍ جديد حالك ، لا صوت فيه إلّا العويل والصراخ والشتم والهدم. نحن أولاد الشرق، ننظر إلى دولٌ تزول وأنظمةٌ تسقط بلا بدائل كأنّ المطلوب تدمير منهجي لحضارة الإنسان وإنهاء لما أشرق من هذه المنطقة من العالم. ألم نسمع الأميركي اللبناني الأصل توم باراك يقول إنّ الشرق الأوسط ليس دولاً بالمعنى الحقيقي بل عشائر وقرى. وإذ يأتينا الصوت من بعيد، وإن كان لبناني الأصل، لا نجني منه سوى مزيدٍ من التخبّط والقلق على المصير.
خبر عاجل
-
النائب فريد البستاني بعد اجتماع لجنة الإقتصاد: معالجة ثغرات سلامة الغذاء تبدأ بتوحيد المرجعية والمختبرات وأمهلنا الحكومة مهلة شهر لللتقيّد بذلك
-
بعد استقالة عضو مجلس الإدارة في “كهرباء لبنان” طارق عبدالله منذ أيام على خلفية خلاف مع رئيس مجلس الإدارة كمال حايك، بقي في المجلس عضوان غير حايك فقط، واحد منهم يقيم خارج البلاد
-
فارس سعيد.. مواقف ورسائل لهذا وذاك
-
أقوال الصحف
-
قراءة في صحف اليوم






