كي لا ننسى

لمن نسي التاريخ
بعد ربع قرن

نداء بكركي التاريخي
الذي حطّم كل الممنوعات

يوم الاربعاء، في ٢٠ من شهر ايلول سنة ٢٠٠٠،

اجتمع أصحاب السيادة المطارنة الموارنة في المقر البطريركي في بكركي، برئاسة صاحب الغبطة والنيافة البطريرك الكردينال مار نصرالله بطرس صفير، وتدارسوا أمورا كنسية ووطنية، وتوقّفوا أمام الأوضاع الراهنة ، وفي نهاية الاجتماع أصدروا النداء التالي:

      أما وقد بلغ الوضع في لبنان هذا الحدّ من التأزّم، فأصبح من الواجب الجهرُ بالحقيقة، دون مواربة أو تحفّظ، على ما هي راسخة في النفوس. ونرى الناس يتسارّون، فماً إلى أذن، ويخشون البوح بها، خوف الاعتقال وما يجرّه عليهم من وبال. ومعلوم أن الحقيقة وحدها تنقذ. وذلك قبل فوات الأوان. ولهذا رأينا أن نتوجّه اليوم إلى كل من يهمّه الأمر في لبنان وخارجه بهذا النداء، لعلّه يسارع إلى الإسهام في عملية الإنقاذ.

1 – الانتخابات النيابية

      نبدأ بالحديث عن حقيقة الانتخابات النيابية الأخيرة التي كان المسؤولون عن وضع قانونها أول من اعترف بفساد هذا القانون. وقد أوجد دوائر انتخابية كبرى فيها أكثرية من فئة معيّنة، وأقلّية من فئة أخرى، فأغرقت أصواتُ تلك أصواتَ هذه في أكثر الدوائر، ففاز نواب لا يمثّلون من كان يُفترض أن يمثّلوهم من المواطنين، ونجح بعضهم في الدوائر الكبرى بما فوق المائتي ألف صوت، ونجح الآخرون في الدوائر الصغرى بعشرين ألف صوت، حتى لكأن هناك نوابا أكثر قيمة، وأعلى قدرا من سواهم، إذا أُخذ بالاعتبار عددُ الأصوات المطلوبة للنجاح. فضلا عن الأموال الطائلة التي بُذلت لشراء الضمائر، وإثارة النعرات الطائفية، وحجب وسائل الإعلام عن بعض المرشّحين، وتشريع أبوابها بوجه سواهم ليل نهار. وما القول عن الضغوط التي مورست لدى تأليف اللوائح فأُُجبر بعض رؤسائها على أخذ هذا أو ذاك ممن لا تجمعه به أو بأعضاء لائحته أيةُ صلة أو اتجاه سياسي، أو نزعة وطنية، فيما مُنع غيره من الترشيح ولو منفرداً؟. وما القول خاصة عن استدعاء الأجهزة اللبنانية، ولا سيّما السورية، المخاتير ورؤساء البلديات في بعض المناطق، والطلب إليهم تارة بالوعود، وتارة بالتهديد، إجبار الناخبين على الاقتراع لمصلحة هذه أو تلك من اللوائح؟ وعندما أتى يوم الاقتراع كانت النتائج قد أصبحت معروفـة. هذا ما أخذ يرويه رواةٌ صادقون من مرشحين، بينهم من نجحوا، وبينهم من سقطوا، بعد أن انحلّت عقدة لسانهم.

2 – لم يعرف لبنان، حتى إبان المعارك، وضعا اقتصاديا مزريا كالذي يعرفه اليوم. وقد دلّت إحصاءاتٌ جدّية على أن نصف الشعب اللبناني أصبح يعيش تحت عتبة الفقر. وهناك مصانع تقفل أبوابها وتسرّح عمّالها، ومدارس خاصة يتناقص عدد طلابها لعجز أوليائهم عن تأمين أقساطهم، فتُضطرّ إلى إلغاء تعاقدها مع بعض الأساتذة فيها وإلى صرفهم. وهنا خرّيجو جامعات يحملون شهادات عليا يلجأون إلى السفر إلى الخارج بحثا عن عمل لا يجدونه في وطنهم لبنان، ومنهم من يُكتب عليهم ألا يعودوا إليه لاحقا.

      أما الإنتاج اللبناني، سواء أكان زراعيا، أم صناعيا، فلا يجد أسواقا للتصدير، ولا حماية من الدولة أمام الإنتاج الخارجي، وبخاصة الانتاج السوري الذي يزاحمه على كل صعيد، وفي كل الفصول، لما بين النظامين من فرق كبير من حيث الدعم الرسمي الذي يساعد على خفض الأسعار، وتسهيل انتقال البضائع في اتجاه واحد.

      وهناك اليد العاملة غير اللبنانية التي تزاحم اليد العاملة اللبنانية، وبخاصة السورية التي تحظى بالرعاية في لبنان، وترضى بأجر متدنٍّ، نظرا لفرق قيمة العملة بين البلدين، ولارتضائها بما يتيسّر من سبل العيش، وهي تقطع سبيل العمل على اليد العاملة اللبنانية التي ترغب في العمل، إنما بشروط مقبولة. وهذا ينطبق على صغار الباعة على العربات النقّالة، وعلى وسائل النقل والشاحنات السورية التي تعمل بحرية مطلقة في لبنان، فيما اللبنانية منها لا يمكنها أن تعمل في سوريا.

3 – الوضع السياسي

      هناك قاعدة معروفة، في علم السياسة والاقتصاد، وهي أنه ما من اقتصاد سليم دون سياسة سليمة. وإذا كان الاقتصاد اللبناني قد تدهور إلى هذا الحدّ، فلأنه محكوم بسياسة أدّت إلى هذا الوضع المؤلم. إن لبنان يعاني منذ ربع قرن من سياسة غير سليمة مفروضة عليه، وقد حاول عبثا التفلّت من قيودها، فما زادته محاولاته إلا عجزا وضعفا وبؤساً.

      لا نريد أن نعود إلى الحروب التي دارت رحاها على أرض لبنان، وإلى تبيان أسبابها ومسبّباتها، وقد بدأ علماء التاريخ يبحثون عنها ويفنّدونه وينشرون الكتب بشأنـها. وعلينا أن نتحلّى بأقلّ قدر من الصراحة والتواضع لنعترف بأننا جميعا أخطأنا إلى بلدنا عن أنانية، وجهل، وقصر نظر. ونال كل منا نصيبه من قهر، وإذلال، وامتهان، وخسارة، وتدمير. وقد آن الأوان لفحص ضمير جدّي، واتخاذ العبر مما جرى، والسعي إلى حلول تنقذ الوطن من التفكيك الذي يبدو أنه يسرع الخطى إليه. وعلى جميع اللبنانيين أن يعملوا متضامنين للحيلولة دون وقوع ذلك.

      إنما هناك أمور أصبحت لا تطاق، وهي التي تقود البلد إلى الضياع. وفي مقدّمها فقدان لبنان سيادته على أرضه، في ظل هيمنة تشمل جميع المؤسسات، والإدارات، والدوائر، والمرافق. ولهذا اختلّت الإدارة، وضاعت المسؤولية، وارتبك القضاء، وبات الناس يعيشون في جوّ من الخوف، والذلّ، والنفاق، يعلنون فيه الولاء، ويضمرون البغضاء. ومن تجرّأ على الجهر بدخائله كانت عيون الاستخبارات له بالمرصاد، وكثيرون هم اللبنانيون القابعون منذ سنوات طويلة في السجون الاسرائيلية والسورية، وقد أُعطوا أرقاما بدلا من أسمائهم، وإذا ذهب أحد للسؤال عنهم كان الجواب : إن صاحب هذا الاسم غير موجود.

4 – أسئلة لا بدّ منها

      لقد تحمّل اللبنانيون، طوال ربع قرن، الكثير من إذلال وامتهان، لم يتعوّدوه، وناموا على الضيم أياما وليالي، وصبروا على ما حلّ بهم من خراب ودمار، وارتضوا، على مضض، حرمانهم حقهم في تسيير أمورهم، واعتبارَهم قاصرين، في حاجة دائمة إلى وصاية. وهم يرون أنه حان وقت المكاشفة في جوّ من الصدق، والصراحة، والأخوّة الحقيقية، والاحترام المتبادل، وطرح بعض أسئلة لا بدّ من طرحها إبقاءً على روح الأخوّة التي يجب أن تسود العلاقات التاريخية بين لبنان وسوريا.

      لقد خرجت إسرائيل من جنوب لبنان، وتركت وراءها مشاكل للبنانيين لا يزالون يعانون منها، وقد خفّف بعضَ الشيء من وطأتها ما أظهره من حكمة من حرّروا الجنوب بما بذلوه من دماء ذكية في سبيل التحرير، بدافع من حميّة وطنية صحيحة. وقد مهّدوا السبيل للدولة لتبسط سلطتها على جميع أراضيها عملا بالقرار 425 الذي تحرّر الجنوب دون تطبيقه عمليا. أما حان الوقت لتبسط هذه الدولة سلطتها فعليا ليشعر الناس بأنهم أصبحوا في حمايتها وليتشجّعوا ويعودوا إلى بيوتهم وعيالهم وأرزاقهم؟

      وبعد أن خرجت إسرائيل، أفلم يحن الوقت للجيش السوري ليعيد النظر في انتشاره تمهيدا لانسحابه نهائيا، عملا باتفاق الطائف؟ وهل من الضرورة أن يبقى مرابطا في جوار القصر الجمهوري، رمز الكرامة الوطنية، ووزارة الدفاع، وفي ما سوى ذلك من أماكن حسّاسة يشعر اللبنانيون لوجوده فيها بحرج كبير، لكي لا نقول بانتقاص من سيادتهم وكرامتهم الوطنية.

      لقد كانت هناك تصريحات تقول بأنه إذا انسحب الجيش السوري من لبنان، قامت فتنة فيه، أو إن وجوده أصبح جزءاً لا يتجزّأ من السلم اللبناني، أو إنه ينسحب، إذا طلبت منه الحكومة اللبنانية الانسحاب. ومعلوم أنها حجج واهية لا تثبت أمام المنطق السليم: لن يكون فتنة في لبنان، إن لم يعمد أحد إلى إضرام نارها، واللبنانيون ما اقتتلوا يوما إلا لأنه كان هناك من يبذر بذور الفتنة في ما بينهم.

      وحرصا منا على توثيق أحسن علاقات الأخوّة بين لبنان وسوريا، وفي مطلع عهد فيها نريده لها زاهرا، نرى أنه قد آن الأوان لإعادة النظر في طريقة التعاطي بين البلدين بحيث يقوى أحدهما بالآخر، فيتكاملان تكاملا صحيحا ، مفيدا لكليهما، وأن يعاد انتشار الجيش السوري في لبنان تمهيدا لانسحابة نهائيا عملا بالقرار 520 ، وباتفاق الطائف، وإبقاءً على ما بينهما من روابط تاريخية وجغرافية، وبين شعبيهما من وشائج قربى ونسب وصداقة ومصالح مشتركة. وفي اعتقادنا أن هذا هو السبيل الوحيد للحيلولة دون تفكك لبنان وزواله. وهو إذا كان متعافيا كان عونا لسوريا ، وأما إذا ظلّ عليلا كان عالة عليها. ونحن نريد له ما نريده لسوريا من عزة وكرامة وازدهار وسلام.

      حقّق الله الآمال، وهدانا جميعا سواء السبيل.