معركة الوقت.. بين خدمة بابوية ووقف نار

بين الهدنة البابوية ووقف النار: معركة الوقت

في لحظة تتقاطع فيها التحوّلات الإقليمية مع الانهيارات الداخلية، يبدو لبنان وكأنه يقف على حافة ميزان شديد الحساسية: طرف تمليه حسابات القوى الكبرى، وطرف آخر يثقل عليه واقعه الاقتصادي والاجتماعي. أما حزب الله، الذي اعتاد اللعب هجومياً ، فيجد نفسه اليوم مضطراً إلى إعادة تعريف موقعه بين الداخل المأزوم،وإيران التي لم تعد كما كانت.

فالصورة الصلبة التي تروّج لها طهران إقليمياً لم تعد تنجح في إخفاء تصدعاتها الداخلية. إيران التي تحاول الإيحاء بأنها قوية تبدو في الداخل دولة تكاد تختنق: اقتصاد منهك وفساد متراكم، ومجتمع يزداد عبئه يوماً بعد يوم. ومع ذلك، تواصل طهران لعب دور القوة التي لا تهتز، متكئةً على نفوذها الخارجي لتعويض هشاشتها في الداخل.

وفي مقدمة هذا النفوذ يقف حزب الله. فالحزب الذي شكّل لعقود الذراع الأكثر حضوراً لطهران، يواجه اليوم واقعاً مختلفاً: لبنان لم يعد الساحة الواسعة التي تمنحه حرية الحركة كما كان سابقاً. تغيّر المزاج الإقليمي، وتراجع قدرة إيران على التمويل والحماية، يدفعان الحزب إلى إعادة ترتيب أوراقه، والانتقال تدريجياً من لغة الميدان إلى لغة السياسة… أو على الأقل محاولة ارتداء “البدلة السياسية”بدلاً من الزي العسكري.

السعودية تتقدّم… وإيران تتراجع

في المقابل، تتسارع حركة المنطقة في اتجاه واضح: ولي العهد السعودي يوقّع اتفاقات اقتصادية ضخمة في واشنطن، ويترك الباب مفتوحاً أمام الانضمام لاتفاقيات أبراهام. مشهد يتغير… ولكن بعيداً عن إيران. فطهران لم تعد اللاعب الذي يصنع الإيقاع، بل أصبحت تحاول الإمساك بما تبقّى من نفوذها قبل أن يتلاشى.

الهدنة البابوية وذكرى وقف إطلاق النار… لحظة الاختبار

وفي لبنان، تتقاطع هذه التحولات مع لحظة داخلية لا تحتمل الخطأ. فمرور عام على وقف إطلاق النار، بالتوازي مع الهدنة البابوية التي سبقت زيارة البابا، يضعان حزب الله أمام حسابات دقيقة. أي زلّة، أي إطلاق نار غير محسوب، قد يفتح الباب لمواجهة لا قدرة للبنان على تحملها اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً.

لهذا، يتصرّف الحزب اليوم بقدرٍ غير معتاد من البرودة. ليس لأن خياراته تغيّرت جذرياً، بل لأن الظروف أصبحت أضيق بكثير من أن تسمح بالمغامرة. يريد الحزب أن يظهر كطرف منضبط يحترم التهدئة، في وقت تواصل فيه إسرائيل استهدافاتها بلا هوادة. وهكذا يحاول أن يشتري الوقت، يعيد ترتيب صفوفه، ويواجه ضغوطاً تأتيه من الداخل والخارج معاً.

حزب الله… بين الأمس واليوم

في العمق، يعيش الحزب واحدة من أكثر لحظاته حساسية. طرق الإمداد عبر سوريا لم تعد سالكة كما كانت، الضغط على “القرض الحسن” قلّص منسوب التمويل، وسلسلة الاغتيالات التي طالت قياداته كشفت ثغرات أمنية غير مسبوقة. أما بيئته الشعبية، التي لطالما كانت سنداً له، فقد باتت أكثر ميلاً للمطالبة بإعادة إعمار ما تهدّم… لا بخوض جولات جديدة من الحرب.

وما يزيد المشهد تعقيداً أن التريث في الرد الذي كان يُنظر إليه يوماً كحكمة يُقرأ اليوم لدى خصوم الحزب كعلامة ضعف، أو تراجع في القدرة على المبادرة.

وفي خضم هذا التبدّل، لا يبدو أنّ أحداً لا إيران، ولا حزب الله، ولا حتى لبنان قادر على أن يبقى كما كان.

ولعل أفضل ما يلخّص هذه المرحلة هو قول الفيلسوف اليوناني هيراقليطس:

“لا يمكنك أن تعبر النهر نفسه مرّتين.”

فالمياه تتبدّل… وكذلك الذين يعبرونها .