زيارة الحبر الأعظم بين وجع الشعب وجلجلة الوطن.. صرخة الأمل من أرض القديسين (البروفسور أنطونيوس أبو كسم)

يأتي الحبر الأعظم، قداسة البابا لاوون الرابع عشر، إلى لبنان، ليس كضيف بروتوكوليّ، بل كرسول في أرض باتت جلجلة وطن مُثقلة بدينامية العجز وشيزوفرينيا النخبة. إنها زيارة لتلامس جراح بلد لم يعد يتسع لآمال شعبه، بلد نؤمن أنه إرث إلهي، وكيانٌ وجوده أعمق من المعادلات السياسية.

ليس هذا الشعب، ولا سيما أبناؤه المسيحيون، ينتظرون زيارة لتكريس أمر واقع أو تلبية لدعوة رسمية كلاسيكية استعراضية. إنما ينتظرون صرخة مدوية تزلزل ركائز الوهم الذي يحكم هذا الكيان، وتؤكد أن لبنان، اليوم، هو بلد مُحتل، ليس فقط من الجيوش والميليشيات الأجنبيّة، بل من الفساد المستشري، والحوكمات العائلية العابرة للزمن، والتنافس العدائي، ومحاربة رأس الدولة كي يتسنى لكل زعيم دنيوي أو روحي أن يقرّر مستقبل الوطن وفقًا لمصالحه وفريقه أو تبعًا لعقيدته.

أولًا: الوجود المسيحي وخطر التآكل الوجودي

إن الشعب المسيحي في لبنان يعاني وجعًا، وهذه المعاناة تخطت الأزمة الاقتصادية لتصل إلى عمق الوجود. فاستمرار العائلة المسيحية مهدّد على أكثر من صعيد؛ بدءًا من الهجرة غير المسبوقة، مرورًا بالضعف المُتعمَّد للتمثيل الوطني بسبب فشل سياسات الطبقة السياسيّة، وصولًا إلى تآكل الثقة بالمرجعيات، والأخطر موجة ضرب القيم العائلية عبر موجة آفات التعدديات الجنسيّة الجندريّة.

إن دعم الوجود المسيحي لم يعد مسألة عاطفية أو طائفية، بل هو دعم للحضور الوطني في الجيش وفي الإدارة، في صلب المؤسسات التي هي آخر ما تبقى من هيكل الدولة. وهذا الدعم، لا ينبغي أن يكون منة، بل استحقاق تفرضه الشراكة الحقيقية التي أسست هذا الكيان، المهدّد جديًا بالزوال أو بتغيير هويّته بسبب أطماع دول الجوار.

ثانيًا: التحدي الكنسي: من الحوكمة الدنيوية إلى مملكة المسيح

لا يمكن للتحصين الوجودي أن يتمّ بمعزل عن إصلاح كنسي جذري. فالمطلوب الآن هو تغيير في استراتيجية الكنيسة المحليّة لتصبح متطابقة أكثر مع مملكة المسيح والقيم الإنجيلية، بدلًا من التماهي مع معايير الحوكمة الدنيوية. لقد تحولت بعض مؤسسات الكنيسة، وللأسف الشديد، إلى ما ينافس شركات القطاع الخاص في أدائها وبيروقراطيتها، وكأن مال الأوقاف هو مال خاص للمسؤول الكنسي وأو لعائلته أو لحاشيته المنفعيّين. هذه الازدواجية تُفقد الكنيسة رسالتها الجوهرية كملجأ للفقير والمهمّش.

إن دعم العائلة اجتماعيًا وتربويًا واستشفائيًا يتطلب خطوات كنسية عاجلة وملموسة. يجب أن تعود المؤسسات الكنسية إلى نموذج الخدمة غير الربحيّة أو المنخفضة الكلفة، وأن تكون الأولوية فيها لدعم أفراد العائلة المسيحية المهدّدة في وجودها وفي قيمها، لا للاستثمار الربحيّ الذي لا يليق بقدسية هذه الأوقاف، التي طالما لعبت الدور الأبرز في النهضة الإنسانيّة.

ثالثًا: دعم الوجود المسيحي لإنقاذ الوطن

إن خارطة المنطقة تتغير والذهنيات المحليّة لم تتبدل وأصحاب الشأن بالهم بمكتسبات سلطوية آنية وكأن الذكاء الاصطناعي سيزيدهم سنين ضوئية في مواقع السلطة أم سيتيح لهم أخذ أموالهم إلى اللّحد. إذا استمرّ نهج عصر الاستعلاء والتكابر والتكبّر، ستبقى الكنيسة الأرضية مؤلفة من رعاة على أبنية أسمنتية فارغة من دون رعيّة، تبرّع بإنشائها محسنون وجهات مانحة. هذا يشكّل سياسة نحرٍ للدستور اللبناني القائم على الميثاق الوطني، فإذا تقلّص عدد المسيحيين، سيصبح البلد أمام معادلة نظام جديد يفقد لبنان هويته ورسالته. أيّ نظامٍ دستوريّ ديمقراطيّ يقوم على تكريس أبرز صلاحيات الحكم للأقليّة؟ إن نجاح المؤسسات التربوية المسيحية يكون بقدرة استقطابها لأكبر عدد من الشابات والشبان للتربية على القيم المسيحية وعلى ثقافة السلام وبناء الدولة، إنها رسالة إنجيلية ووطنيّة تحصّن الوجود المسيحي والمناصفة التي أرساها اتفاق الطائف برعاية فاتيكانيّة.

رابعًا: الزعامة المسيحية في فخ القطيعة ومار شربل ملاذ أخير في غياب الوحدة

إن معيار المنافسة العدائية غير الشريفة في هذا الوطن أصبح المعيار السياسي البحت، بعيدًا كل البعد عن المعيار الإنساني والأخلاقي والوطني. هل يعقل أن الانقسام المسيحي وصل إلى حدّ المقاطعة، وأن الزعماء المسيحيين لا يمكن أن يتصالحوا ولو تحت سقف الكنيسة؟ لقد أصبح لكل مرجعيّة أو زعامة روحيّة محليّة إرشادها الرسولي الخاص بها، تفصّله على قياس مصالحها. لم يعد هناك جامع مشترك ما بين المسيحيين حول مشروع وطني جامع، سوى التشفع لمار شربل، الوحيد الذي بقي أيقونة شعبية للمستحيل، وملاذاً أخيراً بعد أن خابت كل الإرادات البشرية. لذا فإن ليس المهم جمع رؤساء الكنائس المسيحية في لبنان في السفارة البابوية كإنجاز بروتوكولي يتمّ بأمر الطاعة، الأهمّ ما هي رسالة الإنقاذ التي سينطلقون بها والتي تقوم على إنجاز المصالحة المسيحية الحقيقيّة المنتظرة منذ سنوات طوال.

ولا يقلّ أهميّة، لقاء المرجعيات الدينية في ساحة الشهداء مع قداسة البابا: الصلاة لكي يثمر هذا اللقاء ارتقاء الحوار مع المسلمين من حوار مع “الآخر” إلى حوار مع “الشريك في الوطن”، وإطلاق تفاعل بين أبناء هذه الطوائف على أسس غير سياسية بل على أسس القيم العليا والمصير المشترك حماية للبنان البلد الفريد في تعدّديته.

دعوة إلى الخجل المقدس!

هل سيسفر حضور الحبر الأعظم عن شعور بالخجل المقدس لدى الزعماء المسيحيين، لكي يجتمعوا سويًا مع قداسته بملء إرادتهم وتواضعهم، وليس وفقًا لجدول الزيارات الرسمية أو تنفيذًا لأوامر من الخارج؟

إن الشعب اللبناني، المتعب والخائب، ينتظر الأمل وكل مرة يخيب ظنه. فلتكن زيارة قداسته هذه، ليست مجرّد محطة في جدول أعمال الحبرية، بل هزّة ارتدادية تُعيد توجيه بوصلة الكنيسة والقيادات نحو الإنجيل والوطن، وتُطلق صرخة روحية في وجه كل سلطان دنيوي يتاجر بآلام الناس ومقدساتهم. إنها الفرصة الأخيرة وإلّا ستشكّل صكّ براءة مستقبليّة للمسؤولين لعقدٍ كاملٍ من الزمن !

ليكن سلام البابا لاوون الرابع عشر في لبنان سلامًا جدّيًا يبدأ بتطهير بيت الرب من لوثة المصالح، ليُحرّر الوطن من كل احتلال، داخلي وخارجي ويحفظ سيادته على أسس الكرامة والتسامح.

أستاذ جامعي ومحامٍ دوليّ